بذل الوفاء لأسرِ الجرحى والأسرى والشهداء

خطبة الجمعة 121

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

بذل الوفاء لأُسَرِ الجرحى والأسرى والشهداء

التاريخ: 27/ جمادى الأولى/1438هـ
الموافق: 24/ شباط/2017م

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر
⏱ المدة: 44 دقيقة

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ الوفاء لأهل الوفاء
2⃣ حال الناس مع أسر الشهداء والمفقودين
3⃣ الوفاء لمن عَظُمَ شأنهم أم صَغُر
4⃣ وفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أعانه من الكفَّار
5⃣ حسن العهد من الإيمان

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
6⃣ حرمةُ نساء المجاهدين
7⃣ نماذج من سيرة النبي والصحابة في تعاملهم مع عوائل الشهداء
8⃣ منحة (تعويض) الشهيد لمن؟
9⃣ تفضيل أولاد الإنغماسيين بالعطاء.
🔟 وجوب تفضيل المصاب والجريح وتقديمه على سائر الناس بالعطاء والنفقة

ملاحظة: جزء كبير من هذه الخطبة مستفادة من كتيب بنفس العنوان للشيخ أبي ماريا القحطاني وما كتب في الحواشي فهو تخريجه.

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

 

 

الخطبة الأولى
الحمد لله الرحيمِ الرحمن القدير القاهر، وأشهد ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، كريم الأصل زكي المآثِر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخِر، أهل الكرم والوفاء الزاخر، صلَّى الله عليهم وعلى تابعيهم مِن كُلِّ مُحسنٍ على درب الحق سائر… أما بعد إخوة الإيمان يقول الله تعالى وهو العلَّام القادِر: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) (البقرة : 177)
الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ … حديثنا اليوم أيها الأحبة الْمُوفُينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا.
حديثُنا اليوم أيها الأحبة عن الوفاء والأوفياء.
حديثنا عن أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
حديثنا اليوم عن الوفاء، عن ذلك الخُلق العزيز، وتلك القيمةُ النادرة التي قلَّ ما تجدها بين الناس … الوفاء أيها السادة، وما أدراكم ما الوفاء؟
أمّا معنى الوفاء هو التزام الإنسان بما عليه من عهود ووعود وواجبات، وقد أمر الله -تعالى- بالوفاء بالعهد، فقال سبحانه: (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)) [الإسراء: 34]. وقال تعالى: ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)). [النحل: 91].
فالوفاء خُلقٌ عظيم، يكفيه شرفا أنَّ الله خصَّه بالذِّكر في مواضع عديدة من كتابه الكريم، يكفي الوفاء أهمِّيَّةً أن أتت النصوصَ الشرعية تحثُّ عليه وتوصي به في مختلف نواحي الحياة، وبمختلف أنواعه؛ فللوفاء أنواعٌ كثيرة، أولها الوفاء مع الخالقِ سبحانه بالتزام أوامره واجتناب منهياته، ثمَّ الوفاء مع المخلوق بالعقود والعهود والوعود، ومنه الوفاء بالكيل والميزان، الوفاء في البيع والشراء، الوفاء بالأخوَّة والصداقة وردِّ الجميل…
وحديثنا اليوم أيَّها الأحبة عن نوعٍ خاصٍّ من الوفاء، حديثنا اليوم عن الوفاءِ مع أهل الوفاء؛ حديثنا اليوم عن الوفاء مع من صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.
حديثنا اليوم سنخصِّصه للكلام عن الوفاء لأسَرِ الشهداء والأسرى والمصابين من إخواننا، حديثنا اليوم عن أُسَرِ أولئك الذين بذلوا دماءهم وفقدوا أعضاءهم أو غُيِّبوا عن أهلهم وأحبابهم لأجل أن ننعم بالحرِّيَّة والكرامة، حديثنا اليوم عن أولئك الذين قصَّر معهم القريبُ قبل الغريب، والصديقُ قبل العدو …
نعم أيها الأحبَّة، قصَّر معهم الصديقُ قبل العدو، قصَّر القريب قبل الغريب!! كيف لا؟! وقد فسدت أخلاق الناس وشِيم كرمهم بما ألفوه من تقديم بعض المؤسسات والفصائل العونَ لأُسَرِ الجرحى وأولاد الشهداء، ذاك العون البسيط الذي غدا مطمعًا عند بعض ضعاف النفوس فغدوا يزاحمون أبناء الشهيد وأرملته فيه، ذاك العون البسيط الذي قد ينقطع لغياب تلك المؤسسة، أو لانحلال ذاك الفصيل أو حلِّه واختفائه، فإذا بالأهل والخِلَّان وأصدقاء البارحة يتناسونَ عيال صديقهم الذي وفَّى بما عاهد اللهَ عليه، فإذا بهم لا يوفُّون عهدهم معه ومع أسرته؛ مع زوجته وبنيه.
لو تأمَّلنا– أيها السادة – بصدقٍ حال عوائل الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، الذين قُتِلوا ذوداً عن شريعة الرحمن وحرمة الأوطان، لو تأمَّلنا بصدق حال أُسَرَ الجرحى والمصابين والأسرى؛ ستمر على خواطرنا صورةُ أخينا المجاهد المصاب أو الشهيد أو الأسير حِينما كان بيننا صحيحا معافى…
عندما أتخيل ذلك أيها الأحبَّة، يمرُّ شريط الخواطر في ذهني … لأرى الأخَ وكأنَّه أمام عينيَّ، فأذكره كيف كان مستوفِزاً في النائبات، مقدِّماً كلَّ ما أمكنه من تضحيات، صابراً في وقت الشِّدة، حاضراً في وقت الكرب، مناصراً لإخوانه، ذاباً عن أعراضهم في غيبتهم، مدافعاً عن حياض أُمتِه يزود عن كرامتها وعزَّتها… فلما حان قدر الله السابق، ووقع أمره النافــذ، واستشهد أخونا أو أصيب أو أُسر … فلتنظر في حال أهله وذويه؛ فلا تجد أحداً من صحبه أو مِن أبناء جماعته يتعاهد شؤونهم، قلَّ ما تجد مواسٍ لهم يخفف عنهم ما حلَّ بهم، حتى أصبح أهالي الشهداء والجرحى والأسرى نسياً منسياً!! وكلٌّ منهم يتوهم أنَّ الجمعية الفلانيَّة ترعاهم، وكأنَّ الرعاية تكون بالمال فقط؟!!
والله أيها السادة هذا ما نشهده ونراه، نذكر أخانا الغائب وقد كان إخوانه المجاهدون يزورونه في أيام جهاده؛ يزورونه كلَّ يوم يقضون معه السهرات والزيارات والساعات الطويلة، يسامرونَهُ ويأكلون زادهُ، ولكن وبعد إصابته تصاب كلُّ هذه العلائقِ بالعوائق، وبعد مقتله تُقتَل تلك المودة وينقطع حبل الوصال!!
فلله ما أندر الأوفياء! وما أطيب معدنهم! وما أكثر الذين يظن المرء أنهم عُدَّتُه للدهر، فإذا هم عون للشدائد عليه! وقد أصاب ابن صمادح حين أنشد:
وزهَّدني في الناس معرفتي بهم * * وطُولُ اختباري صاحباً بعد صاحبِ
فلم تُرِني الأيامُ خِلّاً يسرُّني * * * * * * بادِيه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لكشف مصيبة **** من الدهر إلا كان إحدى المصائب
وهذا الذي نذكره هو ما حَدَا بابن المِرزبان المِحوَلي لما رأى زمانَه خلا من هذا المحب الذي يحفظه في غِيبته، ويكون وفيًّا لصُحبته؛ لكي يؤلِّف كتاباً أسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) !! فكم عند تلك البهائم من خصال الوفاء التي افتقدها كثيرٌ من البشر.
ولعلَّ هذا إن كان مألوفًا وشائعًا بين عوامِ الناس وضعيفي الإيمان وسيّئي الأخلاق، فلا يُقبل أبدًا، ولا يمكن أن يُستساغ بين من تعاهدوا على نصرة دين ربِّهم، بين من امتزجت دماؤهم وقد حملوا أرواحهم على أكفهم، ولكم منهم اختلطت أشلاؤهم حتى لم تعرف، أفيصحُّ من أولئك هذا التقصير وتلك الجفوة؟!
أيصح منك أيها المسلم هذا التنكُّر ونسيان الجميل لأخ ٍكنت البارحة تقاتل معه جنبًا إلى جنب، فإذا بك اليومَ تتنكر له لأنَّك صِرت مع زيدٍ من الناس وهو مع عمرٍو منهم؟؟!!
أين الوفاء وأنت تمر ببيت أخيك الذي استشهد، فلا تسأل أبات عياله شبعى أم طووا جائعين، أين الوفاء وأخٌ لنا أسيرٌ في سجون المجرمين نسِيناه وهو يذوق العذاب منذ سنين ويأمل أن نأتيه مُحررين، فإذا بنا ننساه بل وننسى عياله من بعده، فتُذلُّ زوجته ويجوع ولده، بل وكثيرٌ من المؤسسات والمنظمات لا تعنى بعوائل الأسرى على اعتبار أن أولياءهم أحياءٌ وليسوا في عدادِ الشهداء !!!
ولو تأمَّلنا سيرة نبينا – صلى الله عليه وسلم – وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده؛ لرأينا عجيب بِرَّهم ووِدَّهم واهتمامهم بأسر الشهداء والأسرى والجرحى، فأين نحن من أمر الله بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، أين نحن من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بسنته وبسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وقد كان حسن العهد من أبرز أخلاقه – صلوات ربّي وسلامه عليه – وقد كان الوفاء من أبرز أخلاق أصحابه – رضي الله عنهم جميعًا – وكيف لا يكونوا كذلك والله تعالى يقول: (إنَّ العهد كان مسؤولا) ورسول الله يقول: (حسن العهد من الإيمان)؟!!
كثيرةٌ هي المواقف التي تُظهر وفاء النبي لأصحابه – عظُم شأنهم أم صغر- فكثير من الناس يهتمون بذوي الشأن فقط، يهتموّون بمن لهم مصلحةٌ عنده، وهذا من النفاق وتحرِّي المصلحة، وليس من الوفاء في شيء… يُصاب كبير القوم، يُصاب العزيز، يُصاب الغني، فيسارعون إلى عيادَتِه، فإذا أصيب أحد صغار الشباب المجاهدين ترى الناس يتجاهلونه، بل أحيانً قد ترى بعض إخوانه الذين كانوا معه بالأمسِ يتناسونه!!!
لم يكن هذا شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شأن صحابته الكرام؛ ومن المواقف المشهودة في ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أنًّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ [ أي كانت تنظِّفُ مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ] ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها، فقالوا: ماتت، قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟!) قال [راوي الحديث] : فكأنهم صغَّرُوا أمرَها، فقال النبي : (دُلُّوني على قبرها) فدَلُّوه، فصلى عليها، ثم قال-صلى الله عليه وسلم- : (إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإن الله -عزَّ وجل- ينَوِّرُها لهم بصلاتي عليهم).
امرأةٌ عبدةٌ سوداء – وفي روايةٍ أخرى أنَّه كان فتىً شابًّا صغير – كانت تنظِّف المسجد، يغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم – لأنَّهم لم يخبروه بوفاتها، فيذهب باحثًا عن قبرها ليُصلِّي عليها، بأبي هو وأمِّي، ما أعظم وفاءه!!
ما أعظم وفاءه، ما أعظم اهتمامه بأصحابه مهما علا قدرهم أو دنى!! مهما عظمت مُهمتهم أو صغُرت، – أعني قَمَّ المسجدِ، تنظيفَ المسجدِ – هذا الذي قد يبدو في أعين الناس مُستصغراً في مجتمع يملؤه أهل السابقة في الإيمان والهجرة، والجهاد والنصرة، والعطاء والصدقة، ومع ذلك لم يستصغره رسول الله – روحي فِداه – ولم يتأخر – صلوات ربِّي وسلامه عليه- عن الوفاء لعامله وتقديره، فبوفائه فلنقتدِ وبخُلقِه فلنتأسَّ.
بل ولعلَّ المدقِّق في سيرة النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن الوفاء كان منه في الدُنيا خُلقًا وسجيَّة لمن أحسن له وأعانه على دعوته، وإن مات على غير الديانةِ الإسلاميَّة!!
نعم أيها السادة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان وفيًّا لمن أعانه في دعوته وإن كانوا كفارًا … فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال في أسارى بدر، وقد كانوا سبعين من صناديد الكفر: (لو كان المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ حيّاً ثُمَّ كلَّمَني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له)، أي لتركتهم كرامةً للمُطعِمُ بن عَدِيٍّ ووفاءً له – وهو الذي مات على الشرك – وفاءً له لِما فعله يوم لبس وبنوه السلاح ليدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكَّة في جوارِ المُطعم، بعد أن خرج إلى الطائف وعاد، نعم – أيها السادة – رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل يوم كان مستضعفًا في جوار كافِر ولم يجد حرجًا في ذلك! إذ أنه يعرف كيف يقوِّم حقيقة ضعفه وقوته، فلم يتحرج من أن يدخل في جوارِ كافرٍ حينها – والحديث في البخاري – فلما نصره الله، ولمَّا أعزه الله، ولمَّا أظهره الله، ذكر ذلك للمُطعمِ بن عَدي من باب الوفاء لذلك الكافِر، فقال: (لو كان المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ حيّاً ثُمَّ كلَّمَني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له)، هكذا يكون الوفاء – أيها الأحبَّة – وهكذا يكون حُسن العهد، الذي يقول عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- – في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ في الأدب المُفرَد – يقول -صلى الله عليه وسلم- : ((وإن حسن العهد من الإيمان)) … أي أنَّ الإيمان وحسن العهد والوفاء أمران متناسبان متلازمان، فكلَّما كان المؤمن أكثر إيمانًا وجب أن يكون أحسن عهدًا وأصدق وفاءً، اللهم اجعلنا ممن حسنت عهودهم وقوي إيمانهم، اللهم اجعلنا من الموفين بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ … أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ … أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا إخوة الإيمان أنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، ولعلَّ من أوجب الواجبات في مثل ظرفنا أن نغيِّر ما كان من تقصيرٍ وأن نسدَّ ما كان من خللٍ منَّا مع عوائل شهدائنا وجرحانا وأسرانا … ولنمض قليلا – أيها الأحبَّة – مع نماذجٍ من سيرة أسوتنا وقدوتنا – صلوات ربِّي وسلامه عليه – لنر كيف كان يعامل النبي – صلى الله عليه وسلم – أُسر الشهداء والجرحى، إذ كيف لا يعتني بهم بعد استشهاد ذويهم، وهو الذي حثَّ على الاعتناء بهم حالة حياة آبائهم عندما قال – روحي فداه – : (ومن خلفَ غازياً في أهله فقد غزا) والحديث في البخاريّ ومسلم، ولهذا فقد كان من شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يزور أسر الشهداء والجرحى والمرضى، يواسيهم ويسعى في حاجاتهم ويأمر بذلك، مشدِّدًا على أهميَّة رعايتهم، ومحذِّرًا من التعدي على حرماتهم!! ومحذِّرًا من التعدي على حرماتهم بحجة معونتهم!! ففي البخاري ومسلم أنَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: (حرمةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتِهم، وما مِن رجلٍ من القاعدين يَخْلُفُ رجلاً من المجاهدين في أهلِه فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟) [أي فما ظنكم بعظيم جريمة ذلك الذي خان المجاهد في أهلِ بيته، فنظرَ إليهم نظرة ريبةٍ أو تكلَّم معهم بكلام لا يحل] وفي روايةٍ لمسلم: (إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى).
قال النووي -رحمه الله- : “هذا في شيئين: أحدهما: تحريم التعرُّض لهن بريبة من نظرٍ محرَّم، وخلوة، وحديث محرَّم، وغير ذلك. والثاني: في بِرِّهنَّ، والإحسان إليهن، وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة، ولا يُتوصَّل بها إلى ريبة ونحوها” اهـ .
وهذا – أيها السادة – في حال حياة المجاهد، فكيف يجب أن يكون الحال بعد قتله واستشهاده؟! كيف يجب أن يكون الحال، وقد فُقِدَ السَنَد وذهبَ المُعيل، وانقطع الرجاء إلّا من الله ومن ثُمَّ وفاءِ عباد الله الصالحين، وإذا بنا نرى في أيامنا ما تشيهُ له الوجوه وتقبُحُ به السِّيَر… نرى البعض يخدم عوائل من فقدوا معيلهم طمعًا في نِكاح ابنة الشهيد أو زوجته من بعده، فإذا علم أن ليس لها رغبةٌ به، تنكَّر لهم وقطع حبال وصلهم، بل وحرمهم ومنعهم عونهم ومددهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
بل ولكم رأينا أيضًا في جهادنا وثورتنا قادة مجموعاتٍ وألويةٍ وفصائل، تنكَّروا لشبابٍ أصيبوا معهم أو استشهدوا معهم، وفي هذا يُطالعنا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة غير بيت أم سليم بنت ملحان، إلا على أزواجه، [ وأمُّ سليمٍ وأمّ حرام بنتي مِلحان هما خالتان للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من بني النجار الأنصار، وقيل أنهما خالتان لأبيه فهما من محارمه -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي لا يدخل بيتًا على امرأةٍ غيرَ على نسائه وعليهما] فقيل له، [أي لماذا تدخل بيتها وتتعاهدها وتزورهما كثيرًا؟] فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أرحمها؛ قُتِلَ أخوها معي).
وعندما ندقق في الحديث ومعناه ؛نعرف كيف تكون عظمة القائد الذي يعتني بعناصره حقَّ العناية… (إني أرحمها؛ قُتِلَ أخوها معي) قد يتبادر إلى ذهن السامع أن أخاها قتل في غزوةٍ إلى جنب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، أنه قُتلَ في غزوةٍ وهو يدافع ويزودُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!!
ولكنَّ الحقيقة أن أخاهما وهو الصحابي الجليل حرام بن ملحان قتل يوم بئر معونة [ابن حجر في الفتح 1/289 ] وقصَّته مشهورةٌ يومَ طُعِن من ورائه، فطلعت الحربة من صدره رضي الله عنه فنادى (فزتُ وربِّ الكعبة)…. هذا الرجل – أيها الأحبة – قُتِلَ يوم بئر معونة ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاضرًا يومها، ومع ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( قُتِل معي))، أي قُتِل مع عسكري وفي جندي مطيعًا لأوامري [العينيُّ في عمدة القاري 14/138] فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجبر قلب أم سليم بنت ملحان بزيارتها، ويخلف صاحبه في أهله بخير بعد وفاته، وذلك من حسن عهده -صلى الله عليه وسلم- وتعاهده لأصحابه في حياتهم وبعد مماتهم، فبمثل هذا فليقتدي القائد الصالح.
وفيما روى أبو داودَ والترمذيُّ، أنّ النبي – صلى الله عليه سلم- قال لأصحابه: عندما قُتِل جعفر – رضي الله عنه – شهيداً في معركة مؤتة : (اصنعوا لآل جَعفر طعاماً؛ فإنه قد أتاهم أمر شغلهم). حتى هذه لم ينسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف الصعب، (اصنعوا لآل جَعفر طعاماً) أي اطبخوا وأرسلوا لهم، لا أن تأتوا لكي يتكلفوا لكم على ما هم فيه من مصابٍ وخَطب، كما هي العادة الفاسدة في مجتمعنا، يتكلَّف أهل القتيل وأهل الميِّت للناس … بل لقد طال بنا العُمر – أيها الأحبَّة – حتى رأينا أناسًا بلغت بهم قلَّة دينهم وقلَّة أمانتهم، أن يأخذوا مِن منحة أخيهم أو منحة ابنهم الشهيد – تلك المنحة المقدَّمة لعائلة الشهيد لزوجته وبنيه – يأخذون منها مالًا ليصنعوا الموائد والولائم – بحُجّة أنها على روح المرحوم – يذبحون الذبائح ليتباهوا حتى في العزاء أمام الناس، ويا ليت هذا كان من مالهم!! بل من مال الأرملة والأيتام وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن الأخطاء الملاحظة أيضًا – أيها الأحبّة – أنَّ بعض من يُحسن من الأعمام والأقرباء ممن يظنون أنهم يحسنون صُنعا، بعضهم يكتفي بإرسال المال أو النفقة وينسى أنَّ الإنسان عواطفٌ ومشاعرٌ وأحاسيس، ينسى أنَّ هذا اليتيمَ بحاجةٍ لمن يُشعره بالحنان وفي هذا أخرج أحمد في مسنده وذكره أصحاب السير عن أسماء بنت عُميس -رضي الله عنها- زوجِ جعفر أنَّه لما قتل جعفر جاءها النبي صلى الله عليه سلم فقال: (ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فشمهم وذرفت عيناه) [انظر: السيرة النبوية لابن هشام 4/380، وأخرجه أحمد في المسند، الفتح الرباني 22/215 -216. قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه امرأتان لم أجد من وثقهما، ولا من جرحهما، وبقية رجاله ثقات. المجمع 6/161].
هذا الطفل يحتاج إلى الحنان لا إلا المال فقط … وروي أنه لما جاء جيش المسلمين من معركة مؤتة ودنَوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله -صلى الله عليه سلم- والمسلمون، فقال الرسول: (خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابنَ جعفر، فأُتِيَ بعبد الله، فأخذه فحمله بين يديه) [السيرة النبوية لابن هشام 4/382، وانظر: تاريخ الطبري 3/42]. وكان عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- يقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (هنيئاً لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء) [قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7/97: “أخرجه الطبراني بإسناد حسن” وكذلك قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/315، ولم أجده في الكبير والأوسط]. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يواسي هذا الطفل الصغير الذي فقد أباه، يحاولُ أن يُبعد الحُزن والكآبة عنه … لم يكتفي بإرسال الطعام والمال، بل واساهم وحاول أن يخفف من حزنهم، فيا له من وفاء، ويا له من اهتمام، ويالها من سنَّة قويمةٍ عظيمةٍ رحيمة سنَّها النبي -صلى الله عليه وسلم- وسار عليها من بعده صحابته، والآثار في ذلك عن أبي بكرٍ وعمر وغيرهما من الصحابة أكثر أن تعد؛ في إكرام أبناء الشهداء والجرحى، بل وفي تمييزهم عن غيرهم بالعطاء، أبناء الشهداء والأبطال كانوا يميَّزون بالعطاء ويُعطون أكثرَ من باقي الناس، – طبعا دون تصويرٍ ولا إذلالٍ ولا كسرٍ لقلوبهم كما تفعل بعض الجمعيات اليوم-
يميَّزون بالعطاء ويُعطون أكثرَ من باقي الناس؛ فهم أبناء من قدموا تضحيةً لم يضحِّيها غيرهم، ولهذا كان الصحابة الكرام يُمايزون في عطاء الأبناء بمقدار تمايز الآباء في التضحية والجهاد والعطاء، وفي هذا تشجيع للناس على مزيدٍ من البذل في سبيل الله، فمن قتل مُقبلا غير مدبرٍ في الصف الأول شهيد، ومن قُتل في بيته قصفًا شهيد، ومن قُتل في الصف الرابع شهيد، ولكن شتَّان بين الأول والآخِر أيها الأحبَّة، وفي هذا فقد أخرج الحاكم في مستدركه أنَّ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- كان يُكرم أبناء الشهداء ويفضِّلهم على غيرهم، فقد روي أنَّه لما فرض للناس، فرض لعبد الله بن حنظلة الغسيل ألفي درهم، فأتاه طلحة بابن أخ له ففرض له دون ذلك، [ابن حنظلة الشاب الأنصاري، غسيلُ الملائكة الذي استشهد صبيحة يوم عرسه، فرض له عُمر أكثر من ابن أخ طلحة المهاجِري] فقال طلحة: (يا أمير المؤمنين فضلت هذا الأنصاري على ابن أخي! قال: نعم لأني رأيت أباه يستن يوم أحد بسيفه كما يستن الجمل) [الجهاد لابن المبارك ص103 -104، والحاكم في المستدرك 3/205]. يستنُّ: أي يندفع مُسرعًا منغمسًا في العدو فحقٌ لولد ذاك الإنغماسيِّ أن يُكرم بمزيد إكرام، وقد روى البخاري في صحيحه وغيره عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – إِلَى السُّوقِ فَلَحِقَتْ عُمَرَ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلَكَ زَوْجِي وَتَرَكَ صِبْيَةً صِغَارًا وَاللهِ مَا يُنْضِجُونَ كُرَاعًا وَلَا لَهُمْ زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ وَخَشِيتُ أَنْ تَأْكُلَهُمُ الضَّبُعُ وَأَنَا بِنْتُ خُفَافِ بْنِ إِيْمَاءَ الْغِفَارِيِّ وَقَدْ شَهِدَ أَبِي الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ النَّبِيِّ، فَوَقَفَ مَعَهَا عُمَرُ وَلَمْ يَمْضِ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِنَسَبٍ قَرِيبٍ، [يا نعم نسب من قُتل أبوه في سبيل الله ] ثُمَّ انْصَرَفَ عُمر إِلَى بَعِيرٍ ظَهِيرٍ، كَانَ مَرْبُوطًا فِي الدَّارِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ غِرَارَتَيْنِ مَلَأَهُمَا طَعَامًا، وَحَمَلَ بَيْنَهُمَا نَفَقَةً وَثِيَابًا ثُمَّ نَاوَلَهَا بِخِطَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَادِيهِ فَلَنْ يَفْنَى حَتَّى يَأْتِيَكُمُ اللهُ بِخَيْرٍ. [أي سيأتيكم المزيد وسأرسل لكم المزيد قبل أن تستهلكوه وقبل أن تحتاجوا لأحد] فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرْتَ لَهَا؟! [أكثرت لأولاد الشهداء أكثرت لأولاد الجرحى أكثرت لأولاد الأسرى ميَّزتهم كثيرًا عن الناس..] فَقَالَ عُمَرُ: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَاللهِ إِنِّي لَأَرَى أَبَا هَذِهِ وَأَخَاهَا قَدْ حَاصَرَا حِصْنًا زَمَانًا فَافْتَتَحَاهُ ثُمَّ أَصْبَحْنَا نَسْتَفِيءُ سُهْمَانَهُمَا فِيهِ”. أباها وأخاها حاصرا حصنًا ففتحاه واستشهدا وليس للشهيد من الغنيمة، فغدونا نعيش ونَسْتَفِيءُ ونتنعم بما أصابنا الله به من فضل جهادهم، فكل ما نحن فيه من خير أصابنا إنما هو بسبب من بذلوا دماءهم وأرواحهم، المناطق التجارية التي تعمل وتؤجِّر وغدت مراكزًا تجاريةً وأسواقًا، كل ما فيها من نعمةٍ وخير، إنَّما جعل الله إقدام الشهداء الذين بذلوا أرواحهم ودماءهم لتحريرها سببًا لما تتنعم به…. حتى ما تقوينا به مما غنِمنا من عتاد وسلاح، إنما جعلَ اللهُ إقدام الشهداء وتضحيتهم سببا له … ولهذا فقد نصَّ فقهاء المسلمين أن من مات أو قتل من جنود المسلمين فإنه يُنفَق على امرأته حتى تتزوج، وعلى ابنته الصغيرة حتى تتزوج، وعلى ابنه الصغير حتى يبلغ، فمنحةُ الشهيد ليست ميراثًا يُقسَّم لورثته، ولكم نُسأل عن هذا، الميراث أيه الأحبة يكون فيما ملكه الإنسان قبل موته، أمَّا منحة الشهيد فهي نفقةٌ لمن كان الشهيد مُعيلا لهم في حياته الدنيا، وهم زوجته وبنوه ووالديه إن لم يكن لديه إخوة ينفقون عليهم، ومن كان في حكمهم ممن لزمته نفقتهم في حياته، فهؤلاء يتقاسمون هذه المنحة ويستعينون بها، لكي يُكفوا المؤنة، ويترفَّعوا عن سؤال الناس … وفي هذا تطييب لقلوب المجاهدين، فإنَّهم متى علموا أنّ عيالهم يُكفَون المؤنة بعد موتهم تحمسوا للجهاد والقتال أكثر.
وكما أتت الآثار تتحدث عن إكرام أهل الشهيد فكذلك عن إكرام الجرحى والمصابين فحدِّث ولا حرج؛ وفي هذا نختم بقصَّةٍ أوردها ابن الجوزي في المناقب عن عبد الله بن عُبيد بن عمير [عبد الله بن عبيد الليثي والمكي، ثقة من الثالثة، استشهد غازياً سنة ثلاث عشرة ومئة. انظر: التقريب ص 312]، قال: (بينا الناس يأخذون أعطياتهم بين يدي عمر إذ رفع رأسه فنظر إلى رجل في وجهه ضربة فسأله، فأخبره: أنه أصابته في غزاة كان فيها، فقال: “عُدّوا له ألفاً”، فأُعطِي ألف درهم، ثم قال: “عدّوا له ألفاً”، فأعطي الرجل ألفاً أخرى، قال له ذلك أربع مرات كل ذلك يعطيه ألف درهم، فاستحيا الرجل من كثرة ما يعطيه فخرج، قال: فسأل عنه فقيل: له “رأينا أنه استحيا من كثرة ما أعطي فخرج”، فقال: “أما والله لو أنه مكث ما زلت أعطيه ما بقي منها درهم، رجل ضرب ضربة في سبيل الله حفرت في وجهه”) [الأموال لابن زنجويه 2/570-571 ، وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه. والمناقب لابن الجوزي ص 74] رجل ضرب ضربة في سبيل الله حفرت في وجهه فكيف بمن بُترت ساقه أو بترت يده أو كُسِر ظهره وشلَّ جسده … كم من مصابٍ – أيها الإخوة – كم من مصابٍ وجريحٍ يموت في اليوم ألف مرَّة، مُصابه على نفسه وعلى أهل بيته أكبر بكثيرٍ من مُصاب من استشهد ولدهم وارتاح من نصَبِ الدنيا، كم من جريحٍ نسيه إخوانه ونسيه أحبابه ونسيه خِلانه بل ونسيه إخوانه الذين كان يجاهد معهم، كم من جريحٍ نسيه جيرانه وأقرباؤه ؟! كم من مصابٍ من إخواننا كان يُسامر إخوانه ويُجالسهم، فلمَّا أصيب وقعد في بيته زاروه أوَّل الأمر مرَّةً أو مرَّتين ثم نسيه أصحابه وأقرباه، نسيه فصيله وأبناء جماعته، فجمعوا عليه ألم الوَحدة والوَحشة إلى ألمِ البدَن … بل ولعل بعضهم إن تكرم بالنفقة عليه، يُرسل له النفقة ولا يُكلِّف نفسه أن يُجالس أخاه مسامِرًا مؤنسًا يرطب خاطره، لألّى يجتمع عليه ألم النفس والروح إلى ألم البدن
يا أوفياء وما أحلى الوفاءِ على *** تقلُّبِ الدهر من معطٍ ومستلبِ
أفديكمُ عُصبةً لله قد خَلُصَتْ فما **** تَغَيَّرُ في خَصب ولا جدب
أهل الإيمانِ المخلصون، المجاهدون حقًا، يبقون مع أخيهم في السراء والضراء لا يتغيَّرون في خَصب ولا جدب، لا ينسون من بذلوا لكي نحيا جميعًا بعزة وكرامة، اللهم شاف جرحانا وعاف مبتلانا وفُكَّ أسرانا، وارزقنا اللهم الأصحاب الأوفياء الصالحين، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين…. إني داعٍ فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *